حِكَايَاتُ صَمْتِي
5 mai 2018مازلت أرسم وجه حبيبتي على جدران الغياب وأبكي حين يكتمل الرّسم، مازلت أغنّي كما جدول يتدرّج في مهمه الحفل، أسيل إلى الماء وأبكي لمّا أعود ظامئا إليّ، أشهد أنّي القتيل، أعود إلى معبدي المتداعي، كما يعود الهنود إلى وطن دون خارطة أو سؤال، أبكي ويبكي الطّفل والشّاعر فيّ لمّا أعود إلى حفلتي وقناعي.
أعلو دائما إليّ، أعلو إلى قاع فكرتي، وأعلو إلى كربلاء الّتي والّتي والّتي تقطف الفجر في ليلها العسكريّ، وأبكي لمّا يبكي الطّفل والشّاعر فيّ، ولمّا ترتفع راياتي مبلّلة بالدّماء، أبكي عند انتهاء الخطاب.
مازلت أركض خلف خطاي، ومازال الدّمع يركض خلف خيول السّماء، مازال الطّفل، ومازال الشّاعر يتوثّب في نظراتي، مازال يهتف، أهتف: أمّاه، عارية صيحة الورد ينحني الشّاعر حيال صداها، وينحني الأفق حيال مداها، أبكي ويبكي معي الطّفل، والشّاعر يعبرني، يعبرني ظمأ
واختناق، أمّاه صاح الطّفل
.سماء تزاول زرقتها وتوسّل منفاه
مازل الشّاعر يغنّي إلى الأرض فوق السّماء، يردّد صوته الشّجر، ويحترق الطّفل والشّاعر كما لا أحترق، تحترق الكلمات والنّظرات كما لا أحترق، يحترق الطّفل في الزّحمة، في القفر، في الصّمت، في الصّوت، في الصّدى، ويقترف الموت مثلما لم أقترف، الجمار الّتي بيدي، والجمار الّتي بيد الشّاعر تتلظّى، أبكي عندما لا تتعدّد في المرايا القوافي، ويبكي الشّاعر عندما يعلو الثّابت على المتحوّل.
أبكي ويبكي معي الورد والجند عندما يتعسكر الشّعراء في حدائقنا، فطوبى لهم دوننا…
مازال قلبي يهتف أعلى من الطّلقات، أتذكّر أنّي على موعد بدمي، وأنّي على موعد بالضّياء الّذي يتوثّب خلف ومازلت أنحت خطوي على جدران البلاد البعيدة، أمشي ويمشي معي الطّفل الحالم، ويمشي معي الشّجر الغائم، يمشي معي الحرف والخوف مثلما لم أمش، فيبكي الشّاعر لكي لا يصدّق أنّي تعبت وأنّ مشاعل ثورتي انطفأت…
مازال قلبي يهتف أعلى من الطّلقات، أتذكّر أنّي على موعد بدمي، وأنّي على موعد بالضّياء الّذي يتوثّب خلف جيوش الكلام، يبكي الشّاعر مثلما لم أبك لمّا يعي بأنّي لا أستطيع الوصول إليّ، يبكي لأنّي تعبت من المثول أمام انهياري، تعبت من الموت، تعبت من الصّمت، تعبت أجراس ثورتي، تعبت فكرتي من آفاق فكرتي البعيدة، تعب الشّاعر من أشواق لغة تتضاءل كلّما انتصب الخوف.
مازال الشّاعر يعبرني دامع العينين، أمشي على الأرض، ويمشي فوق السّماء، مازلت حائرا بين المعابر، مازال الحرف هادئا كالماء، ومازال سؤال الطّفل شاهقا خلف ظلام الصّباحات، أمشي إلى مدينتي الهائمة، إلى حبيبتي الحالمة، وحين أرى ما أرى في عيون النّهار، حين يحملني ظمئي والمياه الّتي تتأرجح في نظرات الغياب إلى قبس يتدلّى من الصّمت، وحين يحملني ظمئي إلى قبس يتدلّى من الموت أبكي على الأرض ويبكي الشّاعر فوق السّماء.
عندما يهتف الدّم ملء النّواقيس، عندما يأذن الشّاعر للشّمس أن تتعرّى حيال أجنحة الطّائر المعدنيّ، عندما يأذن الشّاعر للشّمس أن تفضح القاتل، وأن تتعرّى حيال رذاذ القنابل ولا تتعرّى، عندما يسكب الدّم عشق الشّقائق فوق شفاه الشّفق، يبكي القتيل، ويبكي الطّفل والشّاعر لكي لا أصدّق أنّ الحياة هباء، ومازلت أسيل، تسيل الخطى، و يسيل الدّمع خلف انهمار النّهار، أقرّ، يقرّ الطّفل بأن لا مكان لنا على راحة الأرض، لا مكان على راحة الأرض ينتظر الفقراء، يقرّ بأن لا مكان على الأرض ينتظر الشّعراء.
مازلت أراقص هذا الضياء القديم، ولا شيء يحتفل فيّ غير نشيد البلاد، يسائلني الطّفل، والماء يسأل وجه التّراب، ولا أجيب، هل يعود الضياء القديم إلى شرفات اغترابي؟ ومازال الطّفل والشّاعر يهزّان إليّ بجذع الهزائم فيّ، فيسّاقط البوح منّي أكاليل شوق إلى مدن الماء، ويبكي الطّفل والشّاعر لكي لا أكون هنا فلاة من الأرض أحتويه ولا يحتويني.
مازلت أسكب نبضي وبعضي الّذي لا يزال يغنّي، ومازلت أطلق أجنحة الحرف لكي لا يغيب صباحي الّذي يتعرّى على راحة الشّمس، ولكي لا تشمخ صومعة الموت فيّ، ولكي لا ينطفئ الخطو في صيحتي، يعلّقني الحلم إلى شجر يترقّب، يتدفّق منّي دم الأغنيات، ويركض دمعي على وجنات الطّفل، يركض دمعي على وجنات الشّاعر.
عمر سبيكة | حمّام الأنف | 04 – 06 – 2006